حوار / محمد الحمامصي :-
يشكل د. عبد الكريم كاصد شاعرا وساردا ومترجما وناقدا رؤية فريدة للعالم فقد استطاع عبر تجربته الشعرية التي قدمها في 15
ديوانا أن يرسخ صوتا شعريا له خصوصيته وثراؤه الجمالي والإنساني، صوتا مفعما بصراعات الوجود في هذا العالم الإشكالي الملتبس، ليحتل مكانة متميزة في التجربة الشعرية العراقية والعربية، إضافة إلى تجربته في الترجمة التي احتفت بالشعر العالمي وشعرائه الكبار في هذا الحوار مع د. كاصد نسعى لإضاءة جانب من تجربته الإبداعية، وتجربته الحياتية التي شهدت أحداثا ومواقف أثرت تجربته وألقت بظلالها عليها وتنقلات بين العديد من البلدان لتنتهي إلى الإقامة في العاصمة البريطانية لندن.
ط* كيف كانت البداية ؟
-لا أستطيع أن أحدد البدايات وقد اخترقتها أحداث وأزمنة شتى عاشها الطفل. لكن تحضرني حادثتان: طفل يتوقف عن اللعب فجأة في ساحة، تباغته صرخة امرأة تهوي مضرجة بدمها، وقاتل يعلن انتصاره، وامرأة أخرى لعلها أمها أو واحدة من قريباتها تسرع لتغطي جسدها الممزق بعباءتها القاتل رأيته فيما بعد وقد أحاله السجن إلى رجل ذاهل مطرق يخفي عينيه بنظارتين ملونتين سميكتين يسير وكأنه السائر في نومه.
الحادثة الأخرى حدثت في أثناء عودتي من المدرسة بحقيبتي الثقيلة: صرخة يعقبها أنين خافت طويل. أطلّ من حائطٍ خفيض على ساحة بيت فأرى جثة غطتها الأم بعباءتها وهي تواصل أنينها. كنت أرى القتيلة، أنا الطفل، كلّ مساء وهي تقف أمام بيتها بثوبها القصير ووجهها الأبيض المتحدي الساخر.. تتحدى من؟ القاتل ادعى الصمم بعد أن اكتشف أن أخته الصغرى لم تكن أقل جرأة من أخته القتيلة وهي تقف أيضا بثوبها القصير ووجهها الأبيض المتحدي».
* مراحل ومنافٍ اين الوطن ؟
كيف أعرّف المراحل التي مررت بها، بالأمكنة؟ بأزمنتها؟ بالمنفى الذي صار وطناً؟ بالوطن الذي لم يكن غير منفى؟ بالحاضر الذي تقاسمته أمكنة شتى؟ بم أؤرخ المراحل؟
بعد مجيء القتلة وصعودهم إلى السلطة سنة 1963 اختفيت أشهراً ثم وجدت وسيلة للهرب فتغربتُ ثم عدتُ ثم تغربتُ من جديد، بعد مجيئهم ثانية في أواخر السبعينيات.
كان هروبي الثاني موجعاً. اختفيت في بغداد طويلا بعد أن أطلقتُ لحيتي وغيرتُ ملامحي ولم أجد من وسيلة للهرب هذه المرة سوى الجمل أعتليه أسبوعاً كاملاً في صحراء قفر، مع قافلة ضمت ثمانية أشخاص وستة جمال، لنصل بعدها إلى منأى التقينا عنده بقافلة أخرى منتظرين ما يقلّنا إلى الكويت، بثياب البدو فلم نصادف غير تنكر ماء انحشرنا فيه عشرين مهرباً وهارباً من أقطار شتى. اختنق منا اثنان كانا فلسطينيين فأخرجناهما ومددناهما على سطح التنكر ثم أجلسناهما في الصدر في موضع المهربَين اللذين أبديا إنسانية فائقة.
كان معي الشاعر مهدي محمد علي الذي أقيم مهرجان المربد باسمه هذا العام. ثم توالت المنافي: الكويت، اليمن، سوريا، لبنان، موسكو، لندن، وفي كل موضع ثمة كتاب ونصوص وعذابات وجوع وتشييع صديق واستذكارات وطن ومناف بأحداثها وأناسها فاختلطت المراحل وما عاد حاضرا لم يكن إلا ماضياً مكروراً..
* علاقتك باللغة هل هي علاقة خاصة ؟
-لم يعد لي مأوى بعد كلّ هذه الأسفار والمنافي إلاّ اللغة، فهي سكني وقد أصبحتُ بلا سكن خفيفاً طائراً أمسّ المكان ولا أقيم فيه..خفيفاً إلاّ من لغتي ولعلّ ألفتي معها هي الغرابة ذاتها، فهي ألفتي حين أتغرب، وغربتي حين أألف المكان ولعلّ في هذه الغرابة والألفة ما يجعل العلاقة في احتدام أبداً».
أن المشهد الشعريّ العراقيّ واسع لا يحدّه مهرجان، أو ظاهرة تسود بين فترة وأخرى، وما يبدو من طغيان لهذا النمط من الشعر أو ذاك ليس إلاّ عرضاً لا يمكن الاحتكام إليه.
*رايك بقصيدة النثر؟
أن قصيدة النثر يكتبها الآن شعراء من أجيال شتى، وحضورها الآن كشكل شعريّ سائد لا يلغي الأشكال الشعرية الأخرى التي قد تهيمن في مناسبات أو أحداث معينة، ولكنها لن تكون السائدة أبداً، في تجربة شعرية لها تاريخها العريق، في القدرة على التجدد والخروج على المألوف شعرياً أو حياتياً، حتى وإن بدت على غير جوهرها في مهرجان ما، أو حدثٍ ما، وهي مهما حاولت ولاسيما قصيدة العمود منها أن تستوعب الواقع فإن شكلها يقف عائقاً، إلى حدٍ ما، في قدرتها على تحقيق ذلك، لأنه شكل محدود ولاسيما على يد صغار شعرائها الضاجين بكل مناسبة بسبب تخلفهم وجهلهم المطبق بكل ما يحيط بهم من واقع أو فكر. قد يسود العمود في قصيدة النثر ذاتها حين يقف الشاعر عند حدود الشكل، دون تجاوزه إلى الجوهر الإنسانيّ في التجربة الشعرية.
في ترجمة الشعر لا تكفي حتى معرفة المترجم بموضوعه إن لم تكن هناك ذائقة تكمن خلفه وإحساس عميق بلغة الأصل واللغة المنقول إليها. وقد يضيف البعض إلى الذائقة والمعرفة الحدس في قدرته على استيعاب النص وفهمه. ثمة ترجمات تطالعنا بلا أخطاء ولكنها لا تُقرأ حتى أنك تفضل الخطأ على صوابها لأنها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الحساسية التي تتطلبها الترجمة».
* ماهي معايير الترجمة ؟
-معايير الترجمة تختلف من مترجم إلى آخر: رواج العمل الأدبيّ حتى ولو كان ضئيل القيمة فنياً، الجوائز، الذائقة الشخصية، ثقافة المترجم وعمقها، إلى آخره من المعايير الأخرى. وقد يكون بعضها مضرّاً كالجوائز التي قد تتخذ معياراً مؤسساتياً وليس إبداعياُ، وقد تكون ذائقة المترجم نفسه فاسدة، لكن ما هو مهم أيضاً، ولاسيما في الشعر، أن يكون العمل الشعريّ قادراً عبر المترجم على الانتقال من منظومة لغة إلى منظومة لغة أخرى، ليصبح جزءاً منها دون أن يفقد خصوصيته، أو يتماهي مع شخص المترجم أو منظومة اللغة الأخرى، وهذا لا يتحقق كثيراً في الترجمة، ففي الأدب الإنكليزي مثلا لم يتحقق هذا إلاّ لأعمال قليلة جدا كألف ليلة وليلة، ورباعيات الخيام بينما لم تستطع أعمال أدبية كبيرة من النفاذ إلى منطقة اللغة الأخرى.
-لا أستطيع أن أحدد البدايات وقد اخترقتها أحداث وأزمنة شتى عاشها الطفل. لكن تحضرني حادثتان: طفل يتوقف عن اللعب فجأة في ساحة، تباغته صرخة امرأة تهوي مضرجة بدمها، وقاتل يعلن انتصاره، وامرأة أخرى لعلها أمها أو واحدة من قريباتها تسرع لتغطي جسدها الممزق بعباءتها القاتل رأيته فيما بعد وقد أحاله السجن إلى رجل ذاهل مطرق يخفي عينيه بنظارتين ملونتين سميكتين يسير وكأنه السائر في نومه.
الحادثة الأخرى حدثت في أثناء عودتي من المدرسة بحقيبتي الثقيلة: صرخة يعقبها أنين خافت طويل. أطلّ من حائطٍ خفيض على ساحة بيت فأرى جثة غطتها الأم بعباءتها وهي تواصل أنينها. كنت أرى القتيلة، أنا الطفل، كلّ مساء وهي تقف أمام بيتها بثوبها القصير ووجهها الأبيض المتحدي الساخر.. تتحدى من؟ القاتل ادعى الصمم بعد أن اكتشف أن أخته الصغرى لم تكن أقل جرأة من أخته القتيلة وهي تقف أيضا بثوبها القصير ووجهها الأبيض المتحدي».
* مراحل ومنافٍ اين الوطن ؟
كيف أعرّف المراحل التي مررت بها، بالأمكنة؟ بأزمنتها؟ بالمنفى الذي صار وطناً؟ بالوطن الذي لم يكن غير منفى؟ بالحاضر الذي تقاسمته أمكنة شتى؟ بم أؤرخ المراحل؟
بعد مجيء القتلة وصعودهم إلى السلطة سنة 1963 اختفيت أشهراً ثم وجدت وسيلة للهرب فتغربتُ ثم عدتُ ثم تغربتُ من جديد، بعد مجيئهم ثانية في أواخر السبعينيات.
كان هروبي الثاني موجعاً. اختفيت في بغداد طويلا بعد أن أطلقتُ لحيتي وغيرتُ ملامحي ولم أجد من وسيلة للهرب هذه المرة سوى الجمل أعتليه أسبوعاً كاملاً في صحراء قفر، مع قافلة ضمت ثمانية أشخاص وستة جمال، لنصل بعدها إلى منأى التقينا عنده بقافلة أخرى منتظرين ما يقلّنا إلى الكويت، بثياب البدو فلم نصادف غير تنكر ماء انحشرنا فيه عشرين مهرباً وهارباً من أقطار شتى. اختنق منا اثنان كانا فلسطينيين فأخرجناهما ومددناهما على سطح التنكر ثم أجلسناهما في الصدر في موضع المهربَين اللذين أبديا إنسانية فائقة.
كان معي الشاعر مهدي محمد علي الذي أقيم مهرجان المربد باسمه هذا العام. ثم توالت المنافي: الكويت، اليمن، سوريا، لبنان، موسكو، لندن، وفي كل موضع ثمة كتاب ونصوص وعذابات وجوع وتشييع صديق واستذكارات وطن ومناف بأحداثها وأناسها فاختلطت المراحل وما عاد حاضرا لم يكن إلا ماضياً مكروراً..
* علاقتك باللغة هل هي علاقة خاصة ؟
-لم يعد لي مأوى بعد كلّ هذه الأسفار والمنافي إلاّ اللغة، فهي سكني وقد أصبحتُ بلا سكن خفيفاً طائراً أمسّ المكان ولا أقيم فيه..خفيفاً إلاّ من لغتي ولعلّ ألفتي معها هي الغرابة ذاتها، فهي ألفتي حين أتغرب، وغربتي حين أألف المكان ولعلّ في هذه الغرابة والألفة ما يجعل العلاقة في احتدام أبداً».
أن المشهد الشعريّ العراقيّ واسع لا يحدّه مهرجان، أو ظاهرة تسود بين فترة وأخرى، وما يبدو من طغيان لهذا النمط من الشعر أو ذاك ليس إلاّ عرضاً لا يمكن الاحتكام إليه.
*رايك بقصيدة النثر؟
أن قصيدة النثر يكتبها الآن شعراء من أجيال شتى، وحضورها الآن كشكل شعريّ سائد لا يلغي الأشكال الشعرية الأخرى التي قد تهيمن في مناسبات أو أحداث معينة، ولكنها لن تكون السائدة أبداً، في تجربة شعرية لها تاريخها العريق، في القدرة على التجدد والخروج على المألوف شعرياً أو حياتياً، حتى وإن بدت على غير جوهرها في مهرجان ما، أو حدثٍ ما، وهي مهما حاولت ولاسيما قصيدة العمود منها أن تستوعب الواقع فإن شكلها يقف عائقاً، إلى حدٍ ما، في قدرتها على تحقيق ذلك، لأنه شكل محدود ولاسيما على يد صغار شعرائها الضاجين بكل مناسبة بسبب تخلفهم وجهلهم المطبق بكل ما يحيط بهم من واقع أو فكر. قد يسود العمود في قصيدة النثر ذاتها حين يقف الشاعر عند حدود الشكل، دون تجاوزه إلى الجوهر الإنسانيّ في التجربة الشعرية.
في ترجمة الشعر لا تكفي حتى معرفة المترجم بموضوعه إن لم تكن هناك ذائقة تكمن خلفه وإحساس عميق بلغة الأصل واللغة المنقول إليها. وقد يضيف البعض إلى الذائقة والمعرفة الحدس في قدرته على استيعاب النص وفهمه. ثمة ترجمات تطالعنا بلا أخطاء ولكنها لا تُقرأ حتى أنك تفضل الخطأ على صوابها لأنها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الحساسية التي تتطلبها الترجمة».
* ماهي معايير الترجمة ؟
-معايير الترجمة تختلف من مترجم إلى آخر: رواج العمل الأدبيّ حتى ولو كان ضئيل القيمة فنياً، الجوائز، الذائقة الشخصية، ثقافة المترجم وعمقها، إلى آخره من المعايير الأخرى. وقد يكون بعضها مضرّاً كالجوائز التي قد تتخذ معياراً مؤسساتياً وليس إبداعياُ، وقد تكون ذائقة المترجم نفسه فاسدة، لكن ما هو مهم أيضاً، ولاسيما في الشعر، أن يكون العمل الشعريّ قادراً عبر المترجم على الانتقال من منظومة لغة إلى منظومة لغة أخرى، ليصبح جزءاً منها دون أن يفقد خصوصيته، أو يتماهي مع شخص المترجم أو منظومة اللغة الأخرى، وهذا لا يتحقق كثيراً في الترجمة، ففي الأدب الإنكليزي مثلا لم يتحقق هذا إلاّ لأعمال قليلة جدا كألف ليلة وليلة، ورباعيات الخيام بينما لم تستطع أعمال أدبية كبيرة من النفاذ إلى منطقة اللغة الأخرى.
عن البينة الجديدة
